الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإن مصطلح النفير يُطلق غالبا على النفير إلى الحرب والجهاد، وبين أيدينا آية كريمة من كتاب الله عز وجل، يقول الله سبحانه وتعالى فيها: { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} التوبة:122، تشير إلى نوع آخر من النفير وهو النفير إلى طلب العلم والتفقه في الدين، وهذا ما ذهب إليه بعض أهل العلم من من المراد بالنفير في هذه الآية هو الخروج لطب العلم، وليس المراد به نفير الجهاد.
يدل لذلك ما ذكر في سبب نزول هذه الآية الكريمة، فقد ذكر من ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا فيالبوادي فأصابوا من الناس معروفا ومن الخصب ما ينتفعون به، ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى، فقال لهم الناس: ما نراكم إلا قد تركتم صاحبكم وجئتمونا، فوجدوا من ذلك في أنفسهم تحرجا، وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم "، فقال الله عز وجل: {فلولا نفر من كل فرقة}، يعني: «بعضا ويقعد بعض» {ليتفقهوا} «وليسمعوا مافي الناس وما أنزل بعدهم» . {ولينذروا قومهم} [التوبة: 122] يعني: «لينذروا الناس كلهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون»
وعليه فإن هذه الآية بيَّنت حكم الخروج في طلب العلم، يقول الجصاص : "وفي هذه الآية دلالة على وجوب طلب العلم، وأنه مع ذلك فرض على الكفاية لما تضمنت من الأمر بنفر الطائفة من الفرقة للتفقه وأمر الباقين بالقعود، لقوله: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة}، وقد روى زياد بن ميمون عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طلب العلمفريضة على كل مسلم"، وهذا ينصرف على معنيين:
أحدهما: طلب العلم فيما يُبتلى به الإنسان من أمور دينه فعليه من يتعلمه، مثل: من لا يعرف حدود الصلاة وفروضها وحضور وقتها فعليه من يتعلمها، ومثل: من ملك مائتي درهم فعليه من يتعلم ما يجب عليه فيها، وكذلك الصوم والحج وسائر الفروض.
وثانيهما: أنه فرض على كل مسلم إلا أنه على الكفاية إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين".
وذهبت طائفة من أهل العلم من المراد بالنفير هنا : نفير الحرب والقتال، فيكون المعنى: " وما كان المؤمنون لينفروا جميعًاإلى عدوّهم، ويتركوا نبيهم صلى الله عليه وسلم وحده".
وهذا القول رجَّحه بعض العلماء؛ لأن الله تعالى ذكر حظر التخلف خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المؤمنين به منأهل المدينة ، ومن حلوها من الأعراب لغير عذر يعذرون به إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزو وجهاد عدو قبل هذه الآية، بقوله: {وما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب من يتخلفوا عن رسول الله } التوبة:120، ثم عقب ذلك سبحانه بقوله: { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} التوبة:122.
فكان معلوما بذلك إذ كان قد عرفهم في الآية التي قبلها اللازم لهم من فرض النفر ، والمباح لهم من تركة في حال غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم وشخوصه عن مدينته لجهاد عدو، وأعلمهم أنه لا يسعهم التخلف خلافه إلا لعذر ، بعد استنهاضه بعضهم ، وتخليفه بعضهم من يكون عقيب تعريفهم ذلك تعريفهم الواجب عليهم عند مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمدينته، وإشخاص غيره عنها، كما كان الابتداء بتعريفهم الواجب عند شخوصه، وتخليفه بعضهم.
أما الفرقة المتفقهة في الدين الواردة في هذه الآية فللعلماء في المراد بها قولان:
القول الأول:أنه الفرقة القاعدة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا قول ابن عباس وقتادة والضحاك، يقول ابن عباسفي تفسير هذه الآية: "ما كان المؤمنون لينفروا جميعًا، ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة)، يعني عصبة، يعني السرايا، ولا يتَسرَّوا إلا بإذنه، فإذا رجعت السرايا وقد نزل بعدهم قرآن، تعلمه القاعدون منالنبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: "إن الله قد أنزل على نبيكم بعدكم قرآنا، وقد تعلمناه". فيمكث السرايا يتعلَّمون ما أنزل اللهعلى نبيهم بعدهم، [ويبعث سرايا أخر، فذلك قوله: (ليتفقهوا في الدين). يقول يتعلمون ما أنزل الله على نبيه، ويعلموا السرايا إذا رجعتإليهم لعلهم يحذرون.
ويشكل على هذا القول من ظاهر الكلام يقتضي من تكون الطائفة النافرة هي التي تتفقه في الدين، وتنذر قومها إذا رجعت إليهم، وهذا القول يجعل الفرقة القاعدة هي المتفقهة والمنذرة للطائفة النافرة إذا رجعت إليها ، وهذا بعيد.
القول الثاني: أنها الفئة النافرة، وتفقهها " بما تعاين من نصر الله أهلَ دينه وأصحابَ رسوله، على أهل عداوته والكفر به، فيفقه بذلك من مُعاينته حقيقةَ علم أمر الإسلام وظهوره على الأديان، من لم يكن فقهه، ولينذروا قومهم فيحذروهم من ينزل بهم من بأس الله مثل الذي نزل بمن شاهدوا وعاينوا ممن ظفر بهم المسلمون من أهل الشرك إذا هم رجعوا إليهم منغزوهم".
على من في المراد بالطائفة المذكورة في هذه الآية قولين آخرين، هما:
الأول: من الآية ليست في النفير إلى الجهاد ولا إلى طلب العلم، ولكنها في أقوام ادعوا الإسلام، وجاؤوا إلى المدينة ونزلوا بها، وذلك في العام الذي دعا فيه الرسول صلى الله عليه وسلم على مضر بالسنين، فأجدبت بلادهم، وارتحلوا إلى المدينة، ليصيبوا قواما من عيش فيضيقوا على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية مخبرا بحقيقة هؤلاء ، وأنهم ليسوا بمؤمنين ، فردهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عشائرهم ، وحذر قومهم من يفعلوا فعلهم.
الثاني: من هذه الآية إنما نزلت ردا على المنافقين الذي قالوا: هلك أهل البوادي، ويعنون بهم من خرج من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لتفقيه أهل البادية، وتعليم أهل البادية ، قال المنافقون ذلك عندما أنزل الله قوله: {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما}. هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
___________________
مراجع الموضوع:
1. تفسير مجاهد ص: 377
2. تفسير الطبري = جامع البيان ، 14/ 573-567)
3. أحكام القرآن للجصاص (4/373).
4. الدر المنثور للسيوطي (4/324).
5. زاد المسير (3/516).
6. تفسير ابن كثير (3/473).
7. مسائل من فقه الكتاب والسنة، أ.د. عمر الأشقر، ص 260.
فإن مصطلح النفير يُطلق غالبا على النفير إلى الحرب والجهاد، وبين أيدينا آية كريمة من كتاب الله عز وجل، يقول الله سبحانه وتعالى فيها: { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} التوبة:122، تشير إلى نوع آخر من النفير وهو النفير إلى طلب العلم والتفقه في الدين، وهذا ما ذهب إليه بعض أهل العلم من من المراد بالنفير في هذه الآية هو الخروج لطب العلم، وليس المراد به نفير الجهاد.
يدل لذلك ما ذكر في سبب نزول هذه الآية الكريمة، فقد ذكر من ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا فيالبوادي فأصابوا من الناس معروفا ومن الخصب ما ينتفعون به، ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى، فقال لهم الناس: ما نراكم إلا قد تركتم صاحبكم وجئتمونا، فوجدوا من ذلك في أنفسهم تحرجا، وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم "، فقال الله عز وجل: {فلولا نفر من كل فرقة}، يعني: «بعضا ويقعد بعض» {ليتفقهوا} «وليسمعوا مافي الناس وما أنزل بعدهم» . {ولينذروا قومهم} [التوبة: 122] يعني: «لينذروا الناس كلهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون»
وعليه فإن هذه الآية بيَّنت حكم الخروج في طلب العلم، يقول الجصاص : "وفي هذه الآية دلالة على وجوب طلب العلم، وأنه مع ذلك فرض على الكفاية لما تضمنت من الأمر بنفر الطائفة من الفرقة للتفقه وأمر الباقين بالقعود، لقوله: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة}، وقد روى زياد بن ميمون عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طلب العلمفريضة على كل مسلم"، وهذا ينصرف على معنيين:
أحدهما: طلب العلم فيما يُبتلى به الإنسان من أمور دينه فعليه من يتعلمه، مثل: من لا يعرف حدود الصلاة وفروضها وحضور وقتها فعليه من يتعلمها، ومثل: من ملك مائتي درهم فعليه من يتعلم ما يجب عليه فيها، وكذلك الصوم والحج وسائر الفروض.
وثانيهما: أنه فرض على كل مسلم إلا أنه على الكفاية إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين".
وذهبت طائفة من أهل العلم من المراد بالنفير هنا : نفير الحرب والقتال، فيكون المعنى: " وما كان المؤمنون لينفروا جميعًاإلى عدوّهم، ويتركوا نبيهم صلى الله عليه وسلم وحده".
وهذا القول رجَّحه بعض العلماء؛ لأن الله تعالى ذكر حظر التخلف خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المؤمنين به منأهل المدينة ، ومن حلوها من الأعراب لغير عذر يعذرون به إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزو وجهاد عدو قبل هذه الآية، بقوله: {وما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب من يتخلفوا عن رسول الله } التوبة:120، ثم عقب ذلك سبحانه بقوله: { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} التوبة:122.
فكان معلوما بذلك إذ كان قد عرفهم في الآية التي قبلها اللازم لهم من فرض النفر ، والمباح لهم من تركة في حال غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم وشخوصه عن مدينته لجهاد عدو، وأعلمهم أنه لا يسعهم التخلف خلافه إلا لعذر ، بعد استنهاضه بعضهم ، وتخليفه بعضهم من يكون عقيب تعريفهم ذلك تعريفهم الواجب عليهم عند مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمدينته، وإشخاص غيره عنها، كما كان الابتداء بتعريفهم الواجب عند شخوصه، وتخليفه بعضهم.
أما الفرقة المتفقهة في الدين الواردة في هذه الآية فللعلماء في المراد بها قولان:
القول الأول:أنه الفرقة القاعدة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا قول ابن عباس وقتادة والضحاك، يقول ابن عباسفي تفسير هذه الآية: "ما كان المؤمنون لينفروا جميعًا، ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة)، يعني عصبة، يعني السرايا، ولا يتَسرَّوا إلا بإذنه، فإذا رجعت السرايا وقد نزل بعدهم قرآن، تعلمه القاعدون منالنبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: "إن الله قد أنزل على نبيكم بعدكم قرآنا، وقد تعلمناه". فيمكث السرايا يتعلَّمون ما أنزل اللهعلى نبيهم بعدهم، [ويبعث سرايا أخر، فذلك قوله: (ليتفقهوا في الدين). يقول يتعلمون ما أنزل الله على نبيه، ويعلموا السرايا إذا رجعتإليهم لعلهم يحذرون.
ويشكل على هذا القول من ظاهر الكلام يقتضي من تكون الطائفة النافرة هي التي تتفقه في الدين، وتنذر قومها إذا رجعت إليهم، وهذا القول يجعل الفرقة القاعدة هي المتفقهة والمنذرة للطائفة النافرة إذا رجعت إليها ، وهذا بعيد.
القول الثاني: أنها الفئة النافرة، وتفقهها " بما تعاين من نصر الله أهلَ دينه وأصحابَ رسوله، على أهل عداوته والكفر به، فيفقه بذلك من مُعاينته حقيقةَ علم أمر الإسلام وظهوره على الأديان، من لم يكن فقهه، ولينذروا قومهم فيحذروهم من ينزل بهم من بأس الله مثل الذي نزل بمن شاهدوا وعاينوا ممن ظفر بهم المسلمون من أهل الشرك إذا هم رجعوا إليهم منغزوهم".
على من في المراد بالطائفة المذكورة في هذه الآية قولين آخرين، هما:
الأول: من الآية ليست في النفير إلى الجهاد ولا إلى طلب العلم، ولكنها في أقوام ادعوا الإسلام، وجاؤوا إلى المدينة ونزلوا بها، وذلك في العام الذي دعا فيه الرسول صلى الله عليه وسلم على مضر بالسنين، فأجدبت بلادهم، وارتحلوا إلى المدينة، ليصيبوا قواما من عيش فيضيقوا على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية مخبرا بحقيقة هؤلاء ، وأنهم ليسوا بمؤمنين ، فردهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى عشائرهم ، وحذر قومهم من يفعلوا فعلهم.
الثاني: من هذه الآية إنما نزلت ردا على المنافقين الذي قالوا: هلك أهل البوادي، ويعنون بهم من خرج من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لتفقيه أهل البادية، وتعليم أهل البادية ، قال المنافقون ذلك عندما أنزل الله قوله: {إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما}. هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
___________________
مراجع الموضوع:
1. تفسير مجاهد ص: 377
2. تفسير الطبري = جامع البيان ، 14/ 573-567)
3. أحكام القرآن للجصاص (4/373).
4. الدر المنثور للسيوطي (4/324).
5. زاد المسير (3/516).
6. تفسير ابن كثير (3/473).
7. مسائل من فقه الكتاب والسنة، أ.د. عمر الأشقر، ص 260.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق